من المآخذ المألوفة عن العالم العربي عدم الشفافية وتفاقم مظاهر الغش والتحيل والفساد المالي في مختلف القطاعات الحيوية العامة والخاصة. وقد ساهم في تأكيد هذا التصور أمران أساسيان أولهما غياب التشريعات الدقيقة والإجراءات الزجرية الصارمة لتعقب أثار هذه الآفة الاجتماعية ومناهضتها وثانيهما عدم جدية تطبيق هذه القوانين إن وجدت تحت تأثير عامل المحسوبية والولاء. فما انفكت هذه الممارسات تنخر النسيج الاقتصادي والمالي وحتى الثقافي والعلمي في مختلف الدول العربية بدون استثناء، كلّ منها حسب طبيعة منظومتها الإدارية والقضائية والسياسية. وعكسا لكل التقديرات، فقد تفاقمت هذه الظاهرة بعد التغيرات السياسية الأخيرة بالعالم العربي منذ تغيير عديد الأنظمة كما حصل بالعراق في التسعينات من القرن الماضي أو بدول ما يسمى “ثورات الربيع العربي” الدائرة إلى حد الآن والتي حملت في طياتها آمالا في الديمقراطية والشفافية والحوكمة الرشيدة. إلا أنه من المؤسف أن نلاحظ اليوم أن ظاهرة الفساد المالي لاتزال في أوجها لتطال بعمق قطاعات علمية وثقافية كان من المفروض أن تكون في منأى عن كل الممارسات اللاأخلاقية كالرشوة والتحيل والاستيلاء على المال العام. ويمثل المجال المعرفي للجامعات ومراكز البحث العلمي أحد تلك المجالات المتأثرة بممارسات الفساد المالي وبانعكاساته الوخيمة على الاقتصاد والنمو.
مجال الفساد المالي متشعب ومتعدد الأوجه ولا يمكن بالتالي تناوله بصفة شمولية. لذا سنقتصر في هذا النص على مجال اختياري حددته الممارسة المباشرة لهذه الظاهرة والتعامل معها في أوساط جامعية وبحثية عربية وغربية سنعتمدها في القيام ببعض المقارنات للدلالة على عمق ظاهرة الفساد المالي وغياب الحوكمة العلمية الرشيدة في جامعاتنا العربية. لا يمكننا أيضا الالمام بكافة مظاهر الفساد المالي في هذا القطاع المعرفي نظرا لخصوصيته وتنوعه من مكان إلى آخر. لذا سنختزل هنا أيضا بعض مظاهر الغش والفساد المالي المتداولة في قطاع التعليم والبحث العلمي وسنقترح من خلالها بعض الإجراءات العملية للتقليص منها والحد من تداعياتها على سير المؤسسات العلمية وإشعاعها المعرفي. ويبقى السؤال الأعم (وهو لا يدخل في نطاق هذه الورقة لاتساع مجاله) عن مدى قدرة البلدان العربية على التصدي لهذه الظاهرة في ضوء التغيرات الاستراتيجية الجارية للوصول إلى مرحلة متقدمة في طريق الشفافية المالية والحوكمة الرشيدة.
مظاهر الفساد المالي، مسبباته ونسبه في الوطن العربي
قبل التعرض لمسألة الفساد المالي في قطاع التعليم والبحث العلمي في العالم العربي يجدر بنا التوقف عند بعض الخصائص المميزة للإطار العام الذي تنمو فيه هذه الظاهرة لإبراز طابعها التشعبي والدلالة عن ارتباطها الوثيق بمحيطها الاجتماعي والاقتصادي عامة. فالفساد المالي ظاهرة لم تخل منها المجتمعات البشرية قديما وحديثا بغض النظر عن درجة نموها وتطورا الاجتماعي والاقتصادي. فهي من خصائص الطبيعة البشرية رُسِمَتْ معالمها منذ الحضارات القديمة كما بينته بعض الدراسات الانثروبوجية كتلك التي قام بها فريق هولندي لعلم الآثار سنة 1997 حول موقع أثري في سوريا عثر فيه على ألواح بكتابات مسمارية تكشف عن قضايا خاصة بالفساد الإداري وقبول الرشاوى من قبل الموظفين العاملين في البلاط الملكي الأشوري قبل آلاف السنين.
لذا فأن حديثنا عن الفساد المالي في العالم العربي ليس من باب انفراده بهذه الظاهرة بل من حيث تفاقمه وشياعه تحت مسببات عامة وخاصة من أهمهما ضعف المؤسسات وتعرضها للاستغلال السياسي، عدم إصدار التشريعات وضعف تطبيق الموجود منها، غموض النصوص التشريعية وسهولة خرقها قانونيا من قبل المتحيلين والفاسدين، عدم الكفاءة المهنية لعديد المسؤولين المعينين حسب الولاءات بكل أنواعها، إلخ. لهذه الأسباب وغيرها بيّنت عديد التقارير الصادرة عن منضمات وهيئات دولية مهتمة بمسألة الحوكمة الاقتصادية كتلك الصادرة عن مؤسسة الشفافية المالية العالمية لسنة 2005 أن قيمة الرشوة في العام توازن 4 تريليون دولار وان جرائم الأموال من أكثر الجرائم نموا في العالم وأنها تقدر سنويا بحوالي 500 مليار يورو وأن الأموال التي تهدر فقط على مجال المشتريات الحكومية تقدر بحوالي 400 مليار سنوي وفي تقرير البنك الدولي أن تكلفة الفساد على الاقتصاد العالمي تبلغ حوالي 1.5 تريليون دولار وأن الفساد تسبب في تقليص عملية النمو داخل المجتمعات بمقدار نقطة واحدة سنويا.
أما بالنسبة للدول العربية فقد أفادت نفس المؤسسة في إحدى دراساتها أن مجموع الخسائر الناجمة عن الرشوة بين 1970 و2008 في دول عربية كمصر والجزائر والمغرب وتونس قد فاقت بكثير خسائر العديد من الدول الإفريقية التي تعرف دوما بنسبها المرتفعة من الضبابية والفساد الماليين. كما أظهرت نفس المؤسسة في آخر دراسة لسنة 2013 أن العديد من الدول العربية ومن بينها العراق (كما يظهر في الجدول التالي) تحتل آخر المراتب من حيث مؤشرات الشفافية المالية في العالم.
البلد | العلامة من 100 | الرتبية من 177 |
الصومال | 8 | 175 |
السودان | 11 | 174 |
ليبيا | 15 | 172 |
العراق | 16 | 171 |
سوريا | 17 | 168 |
اليمن | 18 | 167 |
مصر | 32 | 114 |
الجزائر | 36 | 94 |
المغرب | 37 | 91 |
تونس | 41 | 77 |
تصنيف دولي لبعض الدول العربية حسب مؤشر مظاهر الارتشاء (Corruption perception index-CPI)
أبرزت هذه الدراسات أيضا أن الرشوة والمحسوبية في البلاد العربية تشمل كافة القطاعات وتمارسها كافة شرائح المجتمع رغم أن أكثر المستفيدين منها تبقى تلك الأوساط المقربة من مراكز النفوذ المادي والسياسي لتمتعها بحصانة مضادة لكافة قوانين وتشريعات الرقابة والمحاسبة. وبالتالي نجد إن الفساد أضحى ثقافة داخل المجتمعات العربية تتجلى أبرز معالمه في مظاهر الولاء والوساطة والمحسوبية وكلها وليدة لثقافات الفساد الرائجة. نقول ثقافات الفساد في صيغة الجمع لأن للفساد أوجه متعددة منها الإداري ومنها المالي والأخلاقي والسلوكي وحتى الثقافي والأدبي. فبالرجوع إلى دراسة قامت بها الدكتورة نجيبة محمد مطهر من جامعة تعز باليمن سنة 2009، تتبين لنا معايير الفساد المشتركة بين الدول العربية حيث تقول: ” لما كان الفساد الإداري هو ما يشوب الإدارة من خلل واضطرابغير مشروع فأن الفساد هنا يتمثل بالعديد من المجالات مثل انتشار الرشوة والمحسوبية، الاتجار بالوظيفة العامة، الاختلاس من المال العام، الابتزازالوظيفي، سوء استعمال السلطة، التسيب والإهمال الوظيفي، واللامبالاة في العمل، التفريط بالمصلحة العامة، عدم الحفاظ على الممتلكات العامة، إهدار الوقت، شيوع النفاق الوظيفي، علاقات الريبة والشك وعدم الثقة بين الرؤساء والمرؤوسين، تصَنّع العمل أمام الرؤساء، غيابالمسؤولية والالتزام الذاتي، الصراع على القوة، وسوء ممارسة مفهوم الوظيفة العامة”[1].
ولعل من أهم العوامل المساعدة على رواج ثقافة الفساد في العالم العربي هي النظم السياسية الدكتاتورية والشمولية التي تنعدم فيها مقومات العدالة الاجتماعية وحرية الفكر والتعبير والمساوات وحقوق الانسان. فهذه المقومات من شأنها أن تساعد على إرساء مفاهيم المواطنة التشاركية وخدمة الصالح العام ومناهضة التمييز والمحسوبية. وبواسطتها يمكن أيضا بناء أسس متينة لدولة القانون والمؤسسات. إلا أن الواقع العربي تنقصه إلى حد الآن أبسط هذه المقومات الأساسية التي لم تسْعَ الحكومات إلى تجذيرها في مخيلات شعوبها دعما لبناء ثقافتها الاجتماعية وهويتها الفكرية. ففقد بذلك القانون هيبته في المجتمع وصار تعطيله وتجاوزه هو الأصل بينما أصبح احترامه هو الاستثناء وهذا من شأنه أن يزيد في اتساع الفجوة وعدم الثقة بين المواطن وأجهزة الدولة. وهكذا يمكن أيضا تفسير مظاهر الأحجام على التصريح بالمداخيل والتهرب الضريبي وكذلك تفاقم وازع الأنانية حول مفهوم الملكية الفردية مع الغياب المفرط لمفهوم المرفق العام والخدمة العمومية. مقارنة بهذا الواقع العربي المتردي، يمكننا القياس هنا مع بعض الأمثلة التي قد تبدوا لنا خيالية رغم واقعيتها كتلك التي تحصل في الدول الاسكندنافية الأكثر شفافية في العالم وقوانينها الصارمة التي تطبق بدءا على الحكام قبل الرعية، ولنا في هذا الصدد مَثَلُ الوزيرة السويدية التي اضطرت للاستقالة أثر استعمالها لبطاقة بنكية مهنية لشراء قطعة شكولاتة رغم سداد المبلغ لاحقا، أو الوزيرة النرويجية التي تمتطي النقل العمومي لاصطحاب أبنها إلى المدرسة وتُمنع عنها السيارة الإدارية قانونا في القيام بذلك. يمكن أن نذكر أيضا ببلدان حديثة العهد بالاستقلال والنمو الاقتصادي ككوريا الجنوبية التي كان مستوى النمو فيها في الستينات من القرن الماضي يحاذي مستوى النمو في أكثر الدول الإفريقية فقرا. لكن بسياسات اقتصادية وثقافية محكمة وتشريعات تحترم تطبيق القانون وعمل المؤسسات، استطاعت هذه الدولة أن تصبح في أقل من نصف قرن من أكثر دول العالم تطورا وتصنيعا رغم افتقارها إلى الموارد الأولية التي يزخر بها العالم العربي.
كما سبق أن ذكرنا، لا تنفرد الدول العربية بظاهرة الفساد المالي وعدم الشفافية، بل هي ظاهرة واجهتها الأممالمتحدة بعدد من القرارات لمحاربتها نظرا لخطورتها على استقرار وأمن المجتمعات. فأصدرت لذلك اتفاقية دولية سنة 2004 لمكافحة الفساد والارتشاء وقعت عليها العديد من الدول منها الدول العربية. لكن كسائر النصوص والمعاهدات الدولية يبقى التناغم بين التشريع والتطبيق أمرا عسيرا في غياب الوعي الجماعي والاقتناع الكلي بجدوى احترام القوانين والمواثيق الدولية. فقد وقعت العديد من الدول العربية على مثل هذه المعاهدات وقامت بصياغة نصوص تشريعية لمحاصرة مظاهر إهدار المال العام وترشيد النفقات العمومية وتضيق الخناق على الممارسات الفاسدة ومواصلة الجهود الرامية لترسيخ مقومات الحوكمة الرشيدة لتحسين الجودة الصناعية ودعم القدرة الاقتصادية. وقد قامت بعض الدول العربية بإنجاز خطوات هامة ومتقدمة نحو استكمال المنظومات المؤسسية المعنية بمكافحة الفساد ومن أهمها صدور قوانين مكافحة الرشوة وإنشاء الهيئات الوطنية العليا لمكافحة الفساد والرقابةعلى المالية العمومية مثل قانون الذمة المالية وقانون غسيل الأموال وغير ذلك من متطلبات مكافحة الفساد المشمولة بالاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد. لكن كل المؤشرات تفيد إلى عدم تراجع نسب الفساد المالي والارتشاء والسطو على المال العام حتى أن بعض الدراسات أشارت إلى تناميها مدعومة بتنوع مسالك التهريب وتبييض الأموال وتطور الاقتصاد الموازي. فالفساد الذي تشتكي منه جميع الدول العربية ليس إلا نتاجاً لثقافة اختلالات متراكمة ساهمت ظروف سياسية واقتصادية في خلقها، مما جعل البعض يقر بأن المسئولية الأولى في صنع الفساد لا تقع على عاتق الحكومة لوحدها، بل هي مسئولية مشتركة يتحملها الجميع. وفي هذا إشارة إلى أن مكافحة الفساد المالي ليست رهينة القوانين والتشريعات التي تسنها الحكومات بقدر ماهي نتيجة سياسات ثقافية ومجتمعية طويلة المدى تساهم فيها كافة مكونات المجتمع المدني بدءا من نواة العائلة الصغيرة إلى مدارج الجامعات وفضاءات البحث العلمي والأكاديمي. والسؤال الذي يطرح هنا هو عن مدى تأثر المؤسسة التعليمية والبحثية بتفاقم ظاهرة الفساد المالي في المجتمعات العربية وقدرتها على التصدي لها.
الفساد المالي في المؤسسات العلمية والبحثية
دعنا نقر أولا أن الواقع المالي للبحث العلمي العربي يبعد كثيرا عن المقاييس العالمية من حيث الشكل والمضمون. البحث العلمي في العالم العربي يرتكز على التمويل الحكومي بنسبة تفوق أحيانا 80٪ من مجموع حاجياته مقابل 3٪ من القطاع الخاص و7٪ من مصادر أخرى بينما تتراوح هذه النسب في الدول المتقدمة بين 70٪ و80٪ كتمويل أساسي من القطاع الخاص والبقية من عديد المصادر الأخرى. وفي هذا تشخيص أولي لأحد الأسباب الرئيسية للفساد المالي في المؤسسات العلمية العربية يمكن لعلماء الاجتماع شرحها من خلال ظاهرة التواكل وعدم الحرص على المال العام.
لكن رغم قلة موارده المالية مقارنة مع عديد المجالات الأخرى، فلن يُستثنى حسب رأينا المجال العلمي والأكاديمي العربي من سلبيات الفساد المالي والإداري إن تناولناه كمؤسسة تعتمد كغيريها من المؤسسات الحكومية والخاصة على الموارد البشرية والمالية لتسيير شؤونها. من خلال هذه الثغرات، سيجد الفساد المالي له مدخلا للتأثير على سير عمل المؤسسات التعليمية والبحثية. يكفي أن نتوقف عند الفجوة العميقة بين مستويات التعليم والبحث العلمي في الدول العربية والدول المتقدمة لنعاين آثار سوء التصرف وانعدام الرؤيا المستقبلية في السياسات التعليمية في الدول العربية. والدليل القاطع على ذلك هي المراتب التي تتحصل عليها الجامعات والمعاهد العليا العربية في التصنيفات الدولية لأفضل الجامعات في العالم كتصنيف شانغاي أو التصنيف الأكاديمي لجامعات العالم أين تتبوأ الجامعات العربية، بغضّ النظر عن استثناءين أو ثلاثة، آخر المراتب العالمية.
مهما كانت أسباب التخلف العلمي العربي وهي عديدة ومتنوعة فإن أغلبها يعود إلى شكل من أشكال الفساد سنحاول اختزاله في هذه المداخلة الشفاهية في بعض المظاهر المعاينة في عديد الأوساط العلمية العربية.
من أول أشكال الفساد في المجال الأكاديمي هو الفساد الإداري ومن أهم مظاهره التعيينات في مناصب القرار حسب الولاءات (سياسية أو عائلية أو حميمية) والمحسوبية في توظيف المدرسين عن طريق المناظرات المصطنعة. فالمناصب الإدارية الهامة في المؤسسات الجامعية عادة ما تكون سياسية يسعى من خلالها الحزب أو الائتلاف الحاكم بسط سيطرته على مفاصل الدولة ولنا في ذلك عديد الأمثلة الحية حتى بعد الثورات العربية كوزارة التعليم العالي بتونس التي تم حشرها بمنخرطي الحزب الحاكم دون اعتبار مقياس الكفاءة المهنية. وقد ساهم هذا الأمر في انحدار تصنيف الجامعات التونسية على المستوى الإفريقي بعد أن كانت في صدارته. الغريب في الأمر أن أغلب المسؤولين على القطاع العلمي قد درسوا في مؤسسات علمية غربية وقد رأوا فيها بالتالي ممارسة الانتخابات على كافة الأصعدة كطريقة وحيدة لتولي المناصب. كما رأوا فيها أيضا مفاهيم المحاسبة الألية والتقارير الدورية عن الأنشطة والخدمات والميزانيات التشغيلية والبحثية. كل هذه الممارسات الطبيعية شبه مغيبة في دولنا وإن حصل أن تمت، ففيها الكثير من الشبهات وعدم الشفافية.
لا نستثني أيضا مناظرات الانتداب من هذه الممارسات وكم عشنا كأعضاء لجان انتداب من أنواع التدخل السياسي والضغط المعنوي أو الأخلاقي لتوجيه الاختيار النهائي نحو مرشح دون غيره بغض النظر عن كفاءاته العلمية. فالجامعات العربية تزخر اليوم بهذا النوع من الانتدابات الجوفاء. وإن اعتبرنا إضافة إلى ذلك أن قطاع التعليم العالي في أغلب البلدان العربية يفتقر إلى أبسط آليات المتابعة والمراقبة العلمية للجامعيين، ستظهر لنا جليا أسباب هذا الركود المتواصل للمجال العلمي العربي والصعوبة المتزايدة في محاولة النهوض به نظرا لتراكم انعدام الكفاءات والخبرات المنتدبة عبر السنين من دون مقاييس موضوعية في تحديد الجودة وضبط مناهج المتابعة البيداغوجية والمساءلة العلمية.
للفساد الإداري أيضا نتائج مباشرة على الفساد المالي في الجامعات يعود الكثير منها إلى أسباب تتعلق بالجهاز الإداري ذاته أو بالأفراد وعقلياتهم. من الطبيعي أن ينجرّ عن كل تعيين عشوائي في منصب سيادي عديد الهفوات في معالجة الملفات ومتابعة الصفقات والمقتنيات، ومن البديهي أن يفرز عدم ضبط آليات المراقبة المالية الدقيقة للمهام العلمية والبيداغوجية انفلاتا وتحيلا في المعادلة بين الخدمات المنجزة والرواتب المصروفة.
أما الانفلات الأكبر حسب رأينا في الحوكمة المالية بالجامعات ومراكز البحوث العربية فهي في مجال البحث العلمي. من أهم أوجه هذا الانفلات هو الصرف الآلي في عديد الدول العربية لمنح البحوث العلمية والاستحقاقات البيداغوجية للمدرسين والباحثين بمجرد انتماءهم إلى المؤسسة. وفي هذا إهدار كبير للمال العام لأن أغلب تلك المنح لا تتم متابعة توظيفها أو حتى التثبت من مصداقية الوثائق المقدمة للحصول عليها. لذا، صار التمتع بمنح البحث لدى الجميع استحقاقا طبيعيا تُختلق جميع الحجج للحصول عليه بينما نرى في الدول المتقدمة اتباع سياسات مغايرة تبنى على أساس الجدوى من خلال تقديم برامج بحثية جماعية ونتائج مرحلية تصادق عليها لجان علمية متغيرة. والحكمة في هذه الطريقة أمران أولهما أن الأعمال الجماعية هي أساس النجاح في البحث العلمي. فلا جدوى ولا قيمة ترتقب من عمل باحث منفرد. وهذا يعود أساسا إلى مبدئ “التقييم من قبل الأقران Peers review” المعمول به في أكبر الشبكات العالمية للبحث العلمي لضمان الجودة والسبق العلمي. أما الأمر الثاني فهو تفادي تشتت الموارد المالية واستثمارها في برامج بحثية حقيقية عوض توزيعها من دون جدوى على أفراد مستقلين بعضهم عن بعض. بهذه الطريقة تفرض على الباحثين سياسة المجموعات البحثية بأدوات رقابية ذاتية وبموارد مادية أكبر يتم توظيفها بأكثر فاعلية. بهذه الطريقة أيضا تفرض على الباحثين ضرورة الاندماج في عقلية المزاحمة العلمية والسعي إلى توفير الجودة في البحوث والمنشورات للضفر بالمنح العلمية.
هذه من العينات القليلة لمظاهر سوء التصرف المالي في الأوساط العلمية العربية. لكن هنالك العديد من الأساليب الأخرى التي لا يتسع هذا المجال إلى التوقف عليها والتي في مجموعها تشكل عائقا هاما لتطور البحث العلمي العربي. سنقتصر في هذا العرض الشفاهي على التوقف على بعض المقترحات العملية انطلاقا من بعض التجارب الخاصة علما وأن المجال يتسع للعدد الكبير من الحالات التي يعيشها كل باحث جامعي في إطاره العلمي والبيداغوجي الخاص.
مقترحات للحوكمة الرشيدة ومناهضة التحيل المالي في مجالات البحث والتعليم
إن مسؤولية مقاومة الفساد في المؤسسات الجامعية والعلمية لا تخص السلط الرسمية وحدها بل من واجب الجميع الاهتمام بهذه المسألة والمساهمة في مقاومة أهم أسبابها وكيفية معالجتها. وفي هذا الإطار، يمكن تحديد ثلاثة محاور رئيسية يمكن العمل من خلالها على مناهضة الفساد المالي في الجامعات ومراكز البحوث: محور أخلاقي مبدئي يهم الأفراد، محور مؤسساتي يتعلق بطريقة سير المصالح والخدمات الإدارية، محور قانوني يعنى بالجانب التشريعي للمؤسسة ومناهج عملها.
أما المحور الأول فهو سوسيولوجي يهتم بسلوكيات الأفراد كباحثين ومدرسين. كثيرا ما نرى بين الباحثين والمدرسين نزعة عميقة للسرية في الكشف عن الاعمال البحثية وتبادل محتويات الدروس خوفا من سرقتها والاستيلاء عليها. من الضروري أن يعمل الجميع على تجاوز هذه السلوكيات البالية في عالم يتصف بالوصول الحر والمفتوح للبيانات وبالعمل التشاركي وتبادل المعطيات وفق مبادئ عالمية سهلة ومقننة للحفاظ على الحقوق الفكرية للمؤلفين. فظاهرة الغش والسرقة العلمية صارت اليوم أكثر مراقبة وتقصي بواسطة برمجيات وآليات حديثة تمكّن من تحديد أماكن السرقة العلمية. من الضروري أن ينسجم الباحث والجامعي العربي اليوم مع هذه التطورات وأن يرقى بنفسه نحو ممارسات أكاديمية وبحثية تخرجه من عقلية وممارسة تجاوزها الزمن.
المحور المؤسساتي في مناهضة الفساد بالجامعات ومراكز البحوث يتلخص في صياغة الأنظمة الإدارية المبنية على نظم المراقبة الآلية التي تحدد هوية المستخدمين وتسجل آثار استعمالهم للتطبيقات دون علمهم بحيث يسهل إثر ذلك تحديد هوية كل المستعملين للمنظومة الالكترونية بالمؤسسة باليوم والساعة. يمكن كذلك استعمال البطاقات الممغنطة في كل الفضاءات والخدمات للتبع والمعاينة عند الحاجة. وتتوفر اليوم العديد من التطبيقات والنظم الآلية الشاملة التي تغطي كافة مكونات الجامعة من حيث التسيير الإداري والمالي والبيداغوجي في ترابطية يصعب على أي كان إدخال أو إخراج أي معلومة دون أن تتلقف التطبيقات الرقيبة هويته.
أم الجانب التشريعي فدوره علاوة عن سن النصوص القانونية لتسيير المؤسسات الجامعية، العمل أيضا على تحديد وتنظيم العلاقات والمسؤوليات بين المجموعات والافراد من خلال القوانين الداخلية والمعاهدات والاتفاقيات البحثية وشروط الانتداب والتعاقد الخارجي وتحديد المسؤوليات عند تجاوزها. فكثيرا ما نرى متعاقدين غير مؤهلين يتعاقدون على أساس العلاقات الشخصية أو الوساطة دون اثباتات مهنية كافية. وكثيرا ما نرى منحا بحثية تصرف دون تتبع محاصيلها العلمية أو نرى كشوفات صرف وهمية دون التثبت في حيثياتها أو مصادرها. كل هذه الممارسات تدخل في باب الفساد في التصرف المالي.
لكن الأمر كما سبق أن ذكرنا هو أولا وأخيرا مسألة ثقافة ومسؤولية يصعب تحقيق الكثير من الرقابة على الفساد إن لم تكن ثقافة المواطنة والحوكمة الرشيدة متجذرة في مفاصل المجتمع وفي ذهنيات الافراد والمجموعات. وهذا أمر يطول بناؤه أمام الدمار الشامل والمستدام الذي للأسف لا زلنا نلاحظه في عديد الأوساط العربية، السياسي منها والاقتصادي والثقافي والعلمي. فإن لم تكن نخب الأقوام على منأى من هذه الممارسات المهدمة للأمم فما الجدوى من مطالبة العامة بالاستقامة والتصرف الحسن.
[1]نجيبة محمد مطهر. الفساد المالي والإداري في جامعة تعز ودور الأحزاب في الفساد العلمي. لحج نيوز 15-08-2009