تكتسب الإنسانيات الرقمية شعبية متزايدة بين أخصائيي العلوم الإنسانية من خلال مجموعة واسعة من أدوات البحث الرقمية ومن خوارزميات متطورة في اللسانيات ومعالجة البيانات. وهي في الواقع مصطلح موروث من مجالات معرفية سابقة ظهرت منذ الستينات تحت مسميات مختلفة لم تتوصل أي منها إلى تعريف موحد يشمل كافة مظاهرها كسائر العلوم الأخرى. ولعل تلك واحدة من الخصائص التي تنميز بها الإنسانيات الرقمية عن غيرها بشموليتها وتعدد اختصاصاتها.
الإنسانيات الرقمية هي في النهاية جمع بين الرقمنة و العلوم الإنسانية أو بمعنى أخر تقاطع الحوسبة والبحث والتدريس في مجالات العلوم الإنسانية. وبمعنى أدق، يمكن فهما على أنها مصطلح يشمل عددا من الأنشطة المختلفة التي تحيط بالتكنولوجيا والعلوم الإنسانية مثل وسم النصوص وهيكلة الموارد والتنقيب عن البيانات والحفظ الرقمي والتحليل الإحصائي والاسترجاع المرئي للمعلومات والعديد من الأنشطة الأخرى.
السياق التاريخي للإنسانيات الرقمية
باختصار شديد، تشير العلوم الإنسانية الرقمية إلى الجمع بين تقنيات المعلومات والاتصالات الحديثة وتخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية والفنون والآداب. وهي ظاهرة علمية فريدة مرت بثلاث فترات متتالية ميزت تطور العلاقات بين العلوم الإنسانية والمعالجة الآلية للبيانات :
- مرحلة اللسانيات المحوسبة Literacy and linguistic computing (1960-1980): وهي بداية حوسبة العلوم الإنسانية من خلال معالجة النصوص كظاهرة إحصائية : تعود الريادة في هذا المجال إلى القس الإيطالي Roberto BUSA الذي قام على مدى 34 عامًا بفهرسة 10.631.980 كلمة استخرجها من 179 نصًا تركزت على المنشورات حول القس توماس الأكويني Thomas .D’Aquin
– مرحلة التحالف بين العلوم الانسانية وعلوم الحاسوب Humanities computing (1980-1994) : قد عرفت هذه الفترة بترقيم البيانات من خلال التعرف الضوئي على الحروف و انتشار لغات وسم النصوص بلغات المستندات المهيكلة (GML, ODA, SGML).
– مرحلة الإنسانيات الرقمية بمفهومها الحالي Digital humanities (1994-…) : وهي فترة تميزت بتطور تدريجي وحثيث لقدرات تكنولوجيا المعلومات.
الإنسانيات الرقمية كمجال علمي مجدد
ما من شك أن الثورة الرقمية شكلت نقلة نوعية في المجال العلمي والمنهجي للعلوم الإنسانية بكافة تفريعاتها. وتتجلى هذه النقلة النوعية في عدة أوجه نذكر منها :
– الإنسانيات الرقمية كأداة دراسة معرفية في مجالات العلوم الإنسانية والأدبية : لقد ساهم التطور التكنولوجي بشكل كبير في انتقال الإنسانيات من مجرد “حوسبة العلوم الإنسانية” نحو فكرة الرقمنة متعددة الأبعاد. بمعني أن الحوسبة لم تعد مجرد إمكانية تحويل المخزون الإنساني من طبيعته المادية التناظرية إلى أوعية مرقمة ثنائيا، بل تعدت ذلك إلى معالجة هذه البيانات واسنخراج القيمة المضافة منها بسبل البحث والتحليل المتطورة. وفي منطقة التقاطع هذه بين الرقمنة والعلوم الإنسانية، يتم إعادة تحديد أساليب إنتاج المعرفة ونشرها وتلقيها وحفظها وتعزيزها بمناهج علمية محدثة. ومن هنا أيضا تأتي فكرة النظر في الجوانب المبتكرة للعلوم الإنسانية والاجتماعية، فضلاً عن الانتقادات التي يمكن أن توجه إليها.
للرقمنة في العلوم الإنسانية طريقتي استخدام مختلفتين:
- نشر المعرفة وتقاسمها وتعزيزها: وهي مناهج عملية متبعة في مجال علوم المعلومات والمكتبات والتوثيق والنشر الإلكتروني.
- دراسة معرفية للأدبيات الرقمية (والتناظرية) بمناهج مجددة: وهي مناهج بحثية متعددة الاختصاصات يقوم بها الباحثون في عديد المجالات من أجل دراسة الظواهر والمفاهيم.
بين هذين التوجهين، تبدو الدراسة المعرفية أكثر إثارة للاهتمام إذ تبقى البحوث ومخرجاتها هي موضع التساؤل في مجال العلوم الإنسانية الرقمية.
– الإنسانيات الرقمية بين الدمج أو الاستقلالية مع/عن المجالات العلمية الأخرى : شكلت الإنسانيات الرقمية أيضا نقلة نوعية في هيكلة المجال المعرفي من حيث طرح مسألة الاستقلالية بذاتها أو الاندماج مع باقي العلوم الإنسانية. وهذا يطرح في حد ذاته غموض آخر بين أمرين:
- التعامل مع الإنسانيات الرقمية كمجموعة أدوات ومناهج عملية يتم دمجها في مجالات التخصص الجارية في العلوم الإنسانية،
- أم تصورها كنظام مستقل بذاته يعتمد على نظرياته ومناهجه الخاصة.
وهذا الغموض الجاري يطرح السؤال المحوري التالي : هل هناك رغبة في تكوين ارتباطات بين تخصصات العلوم الإنسانية الحالية حول مشروع معرفي مشترك (رقمي)، أم هنالك بالأحرى رغبة في إنشاء مجال معرفي جديد مستقل بذاته ؟
يصعب الرد على هذا لتساؤل لوجود تيارات سائدة متضاربة إذ يرى البعض أنه لا يمكن الإنكار بأن مفهوم الإنسانيات الرقمية قد اكتسح مجالات العلوم كافة وصار يتطلّب منهجية جديدة تتوافق مع الثورة الرقمية وآفاق تطورها بينما يرى البعض الآخر أنها ليست فقط مسألة إتاحة رقمية للموارد في مجالات العلوم الإنسانية، بل هي مسألة تحديث وتوحيد للمناهج والسبل العملية.
– الإنسانيات الرقمية من الاختصاص العمودي إلى تعددية الاختصاصات البحثية والتعليمية : يكمن التجديد هنا في تعرض الهياكل العلمية والأكاديمية منذ النصف الثاني من القرن العشرين إلى انتقادات من قبل جهات فاعلة (باحثون مبتكرون أو حركات طلابية نشيطة أو مجموعات ضغط خارجية) استنكروا طابعها البيروقراطي الصارم مطالبين بفتح الآفاق البحثية والمناهج البيداغوجية. وقد تنج عن ذلك انتشار مفهوم تعدد التخصصات والانتقال من نظام التخصص العمودي إلى عصر التعددية والتداخل الأفقي بين التخصصات (Inter/Multi/Trans Disciplinarity). فبدئ يتم منذ ذلك الوقت تقديم الإنسانيات الرقمية كمجال متعدد التخصصات يهدف إلى ربط الدراسات النظرية والإنجازات العملية في التخصصات المتعددة مع الأنماط الجديدة للنشر العلمي وإنتاج المعرفة. وقد نتج عن ذلك انتقال نوعي من النموذج الذي تهيمن فيه التخصصات والباحثون المستقلون في اختيار ملزم لموضوعات البحث، إلى نمط بحثي أكثر “سياقًا” وتشاركية موجَّها نحو حل القضايا المعقدة. ومن فوائد ذلك:
- إعادة صياغة مناحي البحث وتدريس العلوم الإنسانية في أطر تكنولوجية مجددة.
- إنشاء برامج تعليمية متعددة التخصصات بهدف تحسين التشغيلية.
- توفير مناخ ملائم للابتكار العلمي.
– الإنسانيات الرقمية من الاختصاصات إلى الدراسات : من جملة التحولات الأكاديمية الناجمة عن انفتاح الاختصاصات في الإنسانيات الرقمية على بعضها نذكر بالخصوص تحول عميق في أساليب البحث والممارسة التطبيقية و في تحديد الأهداف. من أهمها المرور من البعد النظري إلى المجال التطبيقي ومن العمل الانفرادي إلى المبادرات التشاركية. ويصف البعض هذا التحول بتحول من “جمهورية العلوم” أي التخصص الأكاديمي(Disciplines) إلى نموذج “الوظيفة الاجتماعية للعلوم” من خلال منهجين أساسيين :
- منهج “الدراسات” (Studies) : وهي نتيجة ظهور ثم انتشار مفهوم تعدد التخصصات. مثلا: « Cultural studies» التي تشكل تقاطعا بين علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية والفلسفة والأدب وعلم الوساطة والفنون إلخ، (Gender studies, Environemental studies; etc.)
- منهج “الكفاءات المندمجة” (Literacy) : وهي جملة المهارات للتصرف بكفاءة في مجال معين: « computer literacy», « financial literacy», « quantitative literacy », « emotional literacy »…
– نقلة نوعية في هيكلة المجال المعرفي للإنسانيات الرقمية من حيث التأسيس : لم تتأخر التجمعات العلمية حول الإنسانيات الرقمية في إضفاء الطابع المؤسسي لأعمالها في الأوساط الأكاديمية من خلال عدة إنجازات وتظاهرات علمية من أهمها :
- “بيان الإنسانيات الرقمية” كنوع من الخطاب الجماعي يحاول من خلاله الناشطون التعبير عن فكرة أو قضية قادرة على تحويل مجال العمل الأكاديمي.
- تحالف المنظمات الإنسانيات الرقمية على المستوى الدولي في هيئات ومؤسسات مختصة : ADHO / EADH / ACH
- إنشاء مراكز العلوم الإنسانية الرقمية والهياكل التنظيمية لها.
- إصدار الكتب والمجلات وبرامج التكوين ومنح البحث الأكاديمي.
- تنظيم المؤتمرات والندوات في شكل معسكرات ذات طابع خاص (اللامؤتمرات=THATCamp).
الخصائص التقنية للإنسانيات الرقمية : لغات الشيفرة النصية
تعتمد الإنسانيات الرقمية على جملة من التقنيات العامة والخاصة يتم تطبيقها لأغراض بحثية وتطبيقية على الأعمال الأدبية ، منها :
- التحريرالإلكتروني Electronic editing
- تكويد (encoding) النصوص بلغات عامة (XML) وأخرى خاصة (TEI: Text Encoding Initiative)
- تحليل النصوص وتنقيبها Textual analysis and text mining
- الاتصال العلمي والنشر Scholarly communication and publishing
- الأدب الإلكتروني E-literacy
- البيانات المرئية Data Vizualization
ويتمثل توكيد النصوص في إضافة علامات يقرؤها النظام الآلي للتمكن من التحكم في هيكلتها ومحتوياتها. وتختلف عملية تكويد النصوص في الإنسانيات الرقمية عن تقنيات الوسائط المتعددة Multimedia من حيث أن لغة الترميز الدلالية المعتمدة في لغات كلغة XML تهدف إلى تحديد وظائف مكونات النصوص وليس شكل مظهرها. وبالتالي فإن دقة التقسيمات (Granluarity) تعتبر من أهم التقنيات في تحديد مدى دقة التحكم في البيانات وإثراء المخرجات. ويتم ذلك من خلال اختيار دقيق ومدروس للوسوم الدلالية التي تحدد تجزأة النصوص مع التأكيد على ضرورة توحيد علامات الوسم المستعملة من أجل توحيد الإجراءات بين المجموعات البحثية محليا ودوليا لإثراء التبادل للمحتويات ودعم التوافقية بين النظم الآلية للمعلومات.
ولع من أهم اللغات الحاسوبية اليوم في مجال الإنسانيات الرقمية هي لغة (Text Encoding Initiative) TEI المعيارية التي تستند إلى حد كبير على توافقات الممارسة الحالية والسابقة في الوسم الدلالي للنصوص. وهي في الأصل تتفرع عن لغة XML التي تعتبر لغة الإنترنت بامتياز. تنبني لغة TEI على الخصائص التالية:
- معالجة الأبعاد الدلالية قبل الشكل.
- الاستقلالية عن أي نظام تشغيل أو متصفح.
- يتابعها مجتمع دولي للممارسين (Community of practice)
- تحظى بتحالف دولي ينظم ملتقيات سنوية لتبادل الخبرات (TEI Consortium)
- لها أدلة مرجعية وأدوات عمل متطورة (TEI P5 Guidelines)
- توفر لمستعمليها أنماطا هيكلية (Schemas) افتراضية لعديد النماذج المرجعية: أدب، شعر، رواية… وهذه الأنماط الهيكلية الافتراضية المعيارية هي مجموعة من الوسوم التي تتلاءم مع نمطية (تركيبة) العديد من المراجع من حيث هيكلتها المادية (كالمقال أو الكتاب أوالأطروحة أو الصورة والتدوية والمخطوط والتسجيل الصوتي) أوهيكلتها الدلالية (رواية، شعر، موسيقى، مسرحية، …)
المناهج البحثية والبيداغوجية في الإنسانيات الرقمية
في الجانب البحثي، من أهم الملامح التي تنقلها «الإنسانيات الرقمية» إلى العلوم التي تتفاعل معها، هو التشديد على العمل الجماعي بين الباحثين في مجالات مختلفة. وتهدف هذه التشاركية في العمل على صياغة لغة مشتركة بهدف دعم عملية الإنتاج المعرفي المشترك.
أما في البعد البيداغوجي، يجري البحث تشاركيا أيضا عن طُرُق مناسبة لتعليم المعلوماتية وإدخالها في العلوم الإنسانية المتنوّعة لوضع منهجيات تعليمية مناسبة لهذا النوع من التفاعل.
من حيث الأدوات والمناهج المجددة للإنسانيات الرقمية، هنالك أمثلة من الأدوات والمنهجيات الرقمية التي يمكن تطبيقها في مجالي البحث والتدريس كالتنقيب عن البيانات، الدراسات الإحصائية، رسم الخرائط الرقمية، النشر عبر الإنترنت، الأفلام الرقمية، المشاريع متعددة الوسائط، التعلم عن بعد، ألعاب الفيديو، الواقع الافتراضي …
خلاصة عامة
كخلاصة عامة هنالك بدايات قوية للتساؤل عن مستقبل التنظيم الأكاديمي الموروث للعلوم الإنسانية. فمن المنتظر جدا أن تستعيد العلوم الإنسانية اختراع نفسها من خلال الإعلامية دون ان تنفصل عن العلوم الأخرى إذ ليس لها أن تكتفي بـ “رقمنة” أساليبها وبياناتها وأغراض دراستها، بقدر ما يجب أن تؤكد عن القيمة المضافة لمقارباتها من خلال الرقمنة. وهذا يحيلنا إلى بعض التوصيات البرقية في هذا المجال بالنسبة للجامعات العربية:
- تنظيم الأنشطة التحسيسية حول الإنسانيات الرقمية.
- المشاركة في التظاهرات الدولية حول الإنسانيات الرقمية.
- إدراج الإنسانيات الرقمية في البرامج التكوينية على المستوى النظري والتطبيقي.
- تأسيس تجمعات أكاديمية تهتم بالإنسانيات الرقمية، و إصدار مجلات ودوريات متخصصة.
موضوع مداخلة بحلقة النقاش الوطنية للإنسانيات الرقمية بجامعة السلطان قابوس، مارس 2021